أخذت حقائب السفر، و وضعتها في الحافلة، واتخذت مقعداً بقرب السائق؛ انطلاقاً لمطار باريس (شارل ديغول) الذي يبعد دقائق عن الفندق، وأثناء ما كان سائق الحافلة ينتظر المسافرين للركوب، سلمت عليه بتحية الإسلام، فجاءت إجابته بالرد بالتي هي أحسن، فتأكد لي بعد ظنون أنه مسلم، وإن كان محياه النيّر قد أعلن ذلك في نفسي، فتبادلنا الحديث بالعربية، وأردت أن أستغل ضيق الوقت بعدة أسئلة حول إسلامه وتعلمه اللغة العربية، وفاجأني أنه أسلم قبل أربعة أعوام، حيث كان يقيم في ضواحي باريس وحوله بعض الأصدقاء المسلمين القاطنين في تلك الضواحي، وفي أحد أيامه معهم،لاحظ عليهم الإمساك عن الطعام والشراب، فلما سألهم عن ذلك، أخبروه بأنهم صائمون، فأراد أن يتعرف أكثر على هذه العبادة، و لكن جهلهم بالدين أعاق معرفته الكاملة عن هذا العبادة الصامتة الناطقة المستفزة لكوامن الفطرة الصحيحة.
وبعد أن عاد إلى بيته وجد راهبة كانت تزورهم من وقت لآخر، فبادرها بالسؤال عن الصيام في المسيحية فأخبرته أنه موجود لديهم ما يشبه الصيام، ثم سألها: هل الإسلام الدين الأخير الذي أنزله الله على البشر؟ فكانت إجابتها: بـ"نعم"، لتثير في نفسه عاصفة داخلية غيّرت وجهة حياته نحو الإسلام. حينها أراد أن يتعلم العربية ليقرأ القرآن ويفهمه، فخرج من عمله، وسافر إلى سوريا والتحق بأحد المعاهد العربية لمدة ثلاث سنوات،عاد بعدها إلى باريس مؤمناً داعياً إلى الله تعالى، وبعدما أنهى قصته، و اقتربت من النزول إلى المطار، شكرته على أن فتح عينيّ مرة أخرى لفهم مقاصد الصوم والتأمّل في أحكامه.
هذه القصة أعادتني خمس سنوات للوراء لأتذكر قصة قريبة منها لشاب فرنسي آخر دخل الإسلام بسبب الصيام ؟!
وها نحن ذا في رمضان –وكالعادة- يمرّ علينا كل عام مرّ السحاب، سريعة أيامه جميلة لياليه، ولكنه يخرج أحياناً كما دخل، لهذا أسأل نفسي: لماذا يحرك الصيام أنفساً ألفت الكفر عقوداً طويلة، ولا تتحرك أنفسنا لذة به وطرباً في صيامه؟! ومرات أخرى أقول: لماذا جعل الله صيام رمضان الركن الرابع من أركان الإسلام التي لا يقوم الدين إلاّ بها مع أن تلك العبادة ليس فيها أداءٌ يُعمل أو واجبٌ يُمارس غير الكف والامتناع عن تناول المباحات من الطعام والشراب والجماع، بمعنى أنها ليست صلاة تُؤدّى يومياً وفق شروط وأوصاف معينة أو زكاة تنفق من مال المسلم أو حج يُقصد فيه العديد من الشعائر البدنية.. والكف والامتناع هو عمل في اصطلاح الأصوليين، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الأداء من حيث التصور المادي للأحكام، ومع ذلك يجعله الله من أجلّ العبادات كلها، ويغفر للصائم ما تقدم من ذنبه، والله قد تكفل للصوم بأجر لا مثيل له كما جاء في الحديث "إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"..
لا أشك أن للصوم حكماً ومقاصد أعظم من الأمر الذي نفهمه من مجرد الامتناع من المباحات، وهي التي جعلت ذلك الصيام من أعظم القربات عند الله، ولكن في مقاصدها وليس في طبيعة أدائها.. ربما كان السبب في ظني أن رمضان هو الدورة التدريبية والتأهيلية لصحة الاستقامة والقيام بواجبات العبادة كلها، وهي التي تحافظ على الإنسان من الإخلال بتلك الواجبات والأوامر.. ذلك أن الصوم عن المفطرات المباحة لنهار كامل ولمدة ثلاثين يوماً يعطي للإنسان قوة في التحمل والصبر و ضبط الإرادة تزداد يوماً بعد يوم.
كما أن الصوم سرّ خفيّ بين العبد وربه لا يعلمه أحد، ولا يتوثق منه أحد.. بهذين الأمرين يجتمع للصائم قوتان قوة الإرادة وقوة المراقبة.. وهاتان القوتان هي ما نحتاجه في كل تفاصيل حياتنا حتى نحقق الإيمان بالله واتباع أوامره.. فالإنسان إنما يقع في شرك الشيطان والهوى إما في لحظات ضعف الإرادة أو لحظات ضعف المراقبة.. لذلك شرع الله لنا تلك الدورة التدريبية لتطوير كفاءتنا في الدفاع عن إيماننا من شر الهوى والشيطان، وهيّأ لنا كل الظروف المحيطة لنجاح مقاصد تلك العبادة؛ فأبواب النار مغلقة، وأبواب الجنة مفتّحة، والشياطين مصفّدة، والملائكة تنادي: يا باغي الخير، أقبل، ويا باغي الشر، أقصر.. بالإضافة إلى مكافآت نفسية يحصل عليها الصائم من الفرح عند فطره، وعند لقاء ربه.
لذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ولا أظن التقوى تتحقق في نفس المؤمن من غير إرادة قوية لفعل الخير واجتناب الشر وقوة في المراقبة تستشعر الله في كل مكان وزمان. ومن عجيب التشريع الديني أن الزكاة والجهاد فُرضا في رمضان، ربما لأن بذل المال الغالي على النفس، وبذل الروح من أجل الله، تحتاج إلى قوة كبيرة من الإرادة و معيّة الله لعبده.
هذه بعض نفحات الصيام وفي أيامه المزيد من الحكم و الأسرار.
تقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال